أيّهما أعمق أثرًا في تكوين المبدع: الدعم المؤسسي أم البيئة الحاضنة؟
الإبداع يشبه جذوة النار؛ لا يكفي أن تُوقد مرة لتبقى متقدة، بل تحتاج إلى هواء نقيّ يغذيها، ويد تصونها من الانطفاء. وانطلاقًا من هذا التصور، يذهب كثيرون إلى أن المبدع – أكان شاعرًا أم كاتبًا أم رسامًا – لا يحتاج سوى إلى دعم مؤسسي، حكومي أو خاص، ليبلغ مداه، ويصنع أثرًا بارزًا في محيطه والمجتمع الثقافي من حوله.
غير أن هذا الاعتقاد، وإن كان يحمل شيئًا من الصواب، لا يعبّر عن الحقيقة كاملة. فالرعاية، مهما بلغت من السخاء والاهتمام، لا تضمن بالضرورة استمرار البريق. فكثيرًا ما يقع المبدع، بعد فترة من النجاح، في فخ التكرار، ويعيد إنتاج ما سبق له أن قدّمه، ولكن بأثرٍ أخف ولمعانٍ أقل. هنا، قد تنقلب الرعاية من دافع إلى قيد، ومن منطلق للحرية إلى مساحة ضيقة تحدّ الخيال.
أما حين نُمعن النظر، نجد أن البيئة الحاضنة – الحيّة، النابضة بالتفاعل والتنوع – هي العنصر الأشد أثرًا، والأكثر دوامًا. فحين يكون المبدع محاطًا بأقران يشاطرونه الشغف، ويبادلونه الأفكار، ويقدّمون له نقدًا صادقًا محفّزًا، فإن الموهبة لا تبقى كامنة، بل تنمو وتتجدد. في مثل هذا الوسط، يصبح الإبداع سلوكًا يوميًا، لا مناسبة عابرة، وتتحول اللحظة الملهمة إلى مشروع متصل.
ومن الملاحظ أن كثيرًا من المنصات والمدونات المتخصصة قد تنبّهت إلى أهمية هذا الدور، فسعت إلى تأسيس ما يُعرف بـ "المجتمعات الإبداعية" (Communities)، وهي فضاءات افتراضية أو واقعية تجمع المهتمين بفن أو فكرة، وتشجع على الحوار والتجربة والمنافسة. تلك المجتمعات لا تقوم على تمويل أو إعلان، بل على رغبة صادقة في التلاقي والتبادل. ومن هذا التفاعل، تولد فرص، وتُصقل مواهب، وتُخلق مساحة حقيقية للتطور.
في هذه البيئات، لا يكون التفاعل مجاملةً عابرة، بل هو محفزٌ على الكتابة، والرسم، والإنتاج، بل وحتى التمرّد على المألوف. ومن بين الصفوف الصامتة، قد ينهض شاب صغير السنّ، قليل الخبرة، ليجد في هذا الحراك ما يدفعه إلى الواجهة، بل وربما يتجاوز من سبقوه إن وجد من يحتضنه ويؤمن بموهبته.
ولنقرب الصورة أكثر: تخيّل كاتبًا موهوبًا نشأ في مجتمع خامل ثقافيًا، لا أندية فيه، ولا فعاليات، ولا منصات للنقاش أو التقدير. ثم تخيّل آخر نشأ في وسط أدبي خصب، عامر بالحوارات والمبادرات والمجلات والمواسم الثقافية. لا شك أن الثاني سيكون أقدر على النضج، وأقرب إلى الاستمرار والتجدد، بل وأكثر قابلية للصعود والتأثير.
والأمر ذاته ينطبق على الرياضي. فاللاعب الذي يولد في بيئة لا تعرف الكرة، لا أندية فيها، ولا جماهير، ولا حلم حقيقي يُبنى، قد تنطفئ موهبته في مهدها. في حين أن اللاعب الذي ينشأ في بلد مثل إنجلترا أو إسبانيا، حيث الكرة ثقافة لا مجرد لعبة، يجد نفسه محاطًا بما ينهض به، ويدفعه إلى المضي من اللعب إلى التدريب، ثم إلى الإدارة، وربما ليصبح من رموز التاريخ الكروي.
وهكذا، فإن النجاح الحقيقي لا تصنعه الموهبة وحدها، ولا يضمنه الدعم المالي ما لم يكن مرفوقًا ببيئة حية، مشجعة، تحترم الفكرة، وتقدّر الاختلاف، وتخلق للمبدع مسارًا طويل النفس. البيئة الحاضنة هي النواة الأولى، ومن بعدها يأتي الدعم المؤسسي ليُكمل ما بدأه المجتمع.
فإذا اجتمعا – بيئة ملهِمة، ورعاية واعية – وُلد الإبداع الأصيل؛ إبداع لا يُستنسخ، ولا يخبو، بل يظل حاضرًا، متجددًا، ومتجذرًا في الناس والحياة

